• اخر تحديث : 2025-09-09 16:05
news-details
قراءات

الآثار القانونية والسياسية المترتبة على الاعتراف الدولي بفلسطين


تزامن مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، اعتراف عدد من الدول رسمياً بالدولة الفلسطينية، مثل أرمينيا، وسلوفينيا، وأيرلندا، والنرويج، وإسبانيا، والباهاماس، وترينيداد وتوباغو، وجامايكا، وباربادوس. وقد تزايد هذا الاعتراف بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية؛ إذ بلغ عدد الدول التي اعترفت بفلسطين حتى الآن أكثر من 147 دولة، وهذا العدد مرشح للزيادة نتيجة إعلان بعض الدول عن رغبتها في الاعتراف بدولة فلسطين خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر الجاري، مثل فرنسا، والمملكة المتحدة، والبرتغال، وكندا، وأستراليا، ومالطا.
 
ولا يخفى أن الاعتراف بفلسطين كدولة يُمثل خطوة أساسية نحو تجسيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، وذلك في ظل ما يعانيه من أزمة إنسانية غير مسبوقة. ويتوافق أيضاً مع الدعوات الصريحة التي أطلقتها منظمات دولية متعددة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، على أساس أن الاعتراف لا يُمثل خطوة رمزية فحسب، بل يُشكل أداة قانونية وسياسية أساسية لدعم حل الدولتين وتعزيز فرص التسوية السلمية العادلة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مراراً ضرورة تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير، وحقه في دولته المستقلة، كما ربط كل من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية بين الاعتراف بفلسطين وبين حماية النظام الدولي القائم على القواعد، وإعادة التوازن إلى عملية السلام المتعثرة.
 
الأساس القانوني:
 
يستند الاعتراف بالدولة الفلسطينية في القانون الدولي إلى عدد من المواثيق والقرارات القانونية الدولية الراسخة، منها ميثاق الأمم المتحدة الذي نص في المادتين 1 (2)، و(55)، على حق الشعوب في تقرير مصيرها؛ وهو الحق الذي يُعد قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي الآمرة، وبمقتضاه يحق للشعوب تحديد وضعها السياسي بحرية تامة ودون تدخل خارجي، بما في ذلك الحق في إقامة دولة مستقلة. وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، غير مرة، هذا الحق للشعب الفلسطيني، ولا سيّما في قرارها رقم 3236 لعام 1974 الذي اعترف بالحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، بما في ذلك الحق في تقرير المصير والاستقلال والسيادة الوطنية. كذلك، شددت محكمة العدل الدولية على هذا الحق في فتواها بشأن مدى مشروعية بناء الجدار العازل في الأراضي الفلسطينية عام 2004، وفتواها بشأن الآثار القانونية الناشئة عن ممارسات وسياسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المُحتلة، بما فيها القدس الشرقية عام 2024. 
 
كما يستند الأساس القانوني للاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى العديد من قرارات الأمم المتحدة، خاصةً قرار الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947، المعروف بقرار التقسيم؛ إذ يمثل نقطة انطلاق تاريخية وقانونية لإقامة دولتين على أراضي فلسطين، وقرار الجمعية العامة رقم 67/19 لعام 2012 بمنح فلسطين صفة "دولة مراقب غير عضو" في الأمم المتحدة، والذي يُمثل اعترافاً ضمنياً بمكانتها ككيان دولي؛ حيث يؤكد هذا القرار استيفاء فلسطين لأركان الدولة في القانون الدولي، كما هو محدد في اتفاقية مونتيفيديو بشأن حقوق وواجبات الدول لعام 1933، والتي تتطلب وجود إقليم محدد، وسكان دائمين، وحكومة فعّالة، والقدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى. وقد دعم هذا القرار قدرة الدولة الفلسطينية على الانضمام إلى المعاهدات والمنظمات الدولية؛ إذ بموجبه انضمت إلى اتفاقيات جنيف، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ومعاهدات حقوق الإنسان الرئيسية، ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية. 
 
ويعزز الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية كذلك اتفاقيات أوسلو لعام 1993 التي أبرمتها منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. فعلى الرغم من أن هذه الاتفاقيات لم تؤد إلى قيام دولة مستقلة بشكل كامل؛ فإنها أقرت بوجود سلطة فلسطينية لها صلاحيات إدارية على أجزاء من الأراضي الفلسطينية المُحتلة؛ مما يُشكل خطوة نحو الاعتراف بكيان سياسي فلسطيني. هذا إلى جانب إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي أصدرته منظمة التحرير الفلسطينية في 15 نوفمبر 1988 في الجزائر، والذي بموجبه اعترفت العديد من الدول بدولة فلسطين منذ ذلك الحين، كالدول العربية والإسلامية وعدد من دول أمريكا اللاتينية. 
 
ويُضاف إلى ذلك، العديد من القرارات التي أصدرها كل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة التي تؤكد عدم مشروعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، وتدعو إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، والتي كان آخرها القرار الذي اعتمدته الجمعية العامة في 10 مايو 2024، بأغلبية 143 صوتاً، وطالبت بموجبه بضرورة دعم طلب فلسطين للحصول على عضوية كاملة بالأمم المتحدة، وأوصت مجلس الأمن بإعادة النظر في هذا الطلب. وقد تضمنت وثيقة القرار مُرفقاً يحدد طرق إعمال الحقوق والامتيازات الإضافية المتعلقة بمشاركة دولة فلسطين، بدءاً من الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة، من بينها الحق في الجلوس بين الدول الأعضاء حسب الترتيب الأبجدي، وحق التسجيل في قائمة المتحدثين في إطار بنود جدول الأعمال، غير البنود المتعلقة بقضيتي فلسطين والشرق الأوسط، والحق في الإدلاء ببيانات باسم مجموعة ما، بما في ذلك إلى جانب ممثلي المجموعات الرئيسية، والحق في تقديم والمشاركة في تقديم مقترحات وتعديلات وعرضها، بما في ذلك باسم مجموعة ما، والحق في تقديم تعديلات للتصويت باسم الدول الأعضاء في مجموعة ما، وحق الرد فيما يتعلق بمواقف مجموعة ما.
 
آثار الاعتراف:
 
يطرح الاعتراف بالدولة الفلسطينية تساؤلاً مهماً حول كيفية تأثير هذا الاعتراف في مستقبل الدولة الفلسطينية، وآثاره القانونية والسياسية. ولا شك أن الاعتراف الدولي بفلسطين سوف يُعزز بشكل كبير شخصيتها القانونية الدولية على المستوى الدولي وحقها في تقرير المصير؛ مما سيكون له العديد من الآثار على المستوى الدولي، من بينها الآتي:
 
1- تكريس الحق في تقرير المصير: سوف يُرسخ الاعتراف الدولي المتتالي بدولة فلسطين، حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وهو الحق الذي أكدته مواثيق الأمم المتحدة المختلفة والعديد من القرارات الأممية بوصفه "قاعدة آمرة" (Jus Cogens) في القانون الدولي؛ فقد نصّت المادة الأولى المشتركة من العهدين الدوليين لحقوق الإنسان لعام 1966 على ثبوت هذا الحق لجميع الشعوب؛ لذا فإنه كلما زاد عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين، تأكد الحق الأصيل للشعب الفلسطيني في تحديد وضعه السياسي بحرية، وإقامة دولته المستقلة على أرضه، فالاعتراف بدولة فلسطين سوف يمنحها وجوداً قانونياً مستقلاً عن الاحتلال؛ مما يعني أن حقوق والتزامات فلسطين كدولة قائمة بذاتها ستصبح مُعترفاً بها بشكل أوسع، حتى وإن كانت ممارستها لهذه الحقوق مقيدة بسبب الاحتلال. إضافة إلى أنه سيُقوّض في الوقت ذاته مشروعية الممارسات الإسرائيلية الرامية إلى فرض واقع استيطاني في الأراضي الفلسطينية المُحتلة؛ لكونه يتعارض مع القانون الدولي الإنساني. وقد عززت محكمة العدل الدولية هذا الاتجاه في رأيها الاستشاري الصادر عام 2004 بشأن الجدار العازل؛ حيث أكدت أن بناء الجدار والإجراءات المرتبطة به تُشكل انتهاكاً صارخاً لحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.
 
2- الانضمام إلى المزيد من المعاهدات والاتفاقيات والمنظمات الدولية: إن الاعتراف بدولة فلسطين سيمنحها القدرة على الانضمام إلى المزيد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بما يدعم قدرتها على حماية شعبها وممتلكاتها، وسيضمن إثارة قضية مسؤولية إسرائيل عن انتهاكات للقانون الدولي، فقد سبق وانضمت فلسطين للاتفاقيات الخاصة بالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان مثل اتفاقيات لاهاي وجنيف، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، كما انضمت إلى منظمات مثل اليونسكو، ومنظمة الجمارك العالمية. وقد عزز ذلك قدرة فلسطين على التحرك الدبلوماسي والقانوني على المستوى الدولي؛ إذ أحالت فلسطين الوضع في الأراضي المُحتلة، بما فيها غزة، إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهو الأمر الذي نتج عنه إصدار الدائرة التمهيدية الأولى بالمحكمة مذكرة اعتقال أو توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، يوآف غالانت، في 21 نوفمبر 2024؛ نتيجة لاتهامهما بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب منذ 8 أكتوبر 2023 وحتى 20 مايو 2024 على الأقل.
 
3- تعزيز مبدأ المساواة: إن الاعتراف بدولة فلسطين يضعها، من الناحية النظرية والقانونية، على قدم المساواة مع الدول الأخرى في العلاقات الدبلوماسية، ويُقلل من علاقات التبعية التي يفرضها الاحتلال؛ وهو ما يُشكل في حد ذاته تطبيقاً لنصوص ميثاق الأمم المتحدة، وخاصةً المادة 2 (1) التي تنص على وجوب المساواة في السيادة بين جميع الدول. كما يخلق الاعتراف الدولي المتزايد ضغطاً سياسياً ودبلوماسياً على إسرائيل لإنهاء الاحتلال والالتزام بالقانون الدولي. وقد يدفع الدول التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين إلى إعادة تقييم مواقفها، مما يُعزز بشكل متزايد مسألة حل الدولتين. ومثال ذلك، أن إعلان الأمم المتحدة في 22 أغسطس الماضي عن وقوع المجاعة في غزة، قد دفع بعض الدول الأوروبية إلى إعادة تقييم موقفها من القضية الفلسطينية، وذلك على أساس أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يُمثل خطوة عملية لمعالجة جذور الأزمة برمتها؛ حيث أكد وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، أن المجاعة في غزة "فضيحة أخلاقية"، و"كارثة من صُنع الإنسان"؛ لذلك أعلن عن نية بلاده الاعتراف بدولة فلسطين لتعزيز قدرة المجتمع الدولي على إلزام إسرائيل باحترام التزاماتها الإنسانية، ولفتح المجال أمام الفلسطينيين للمطالبة بحقوقهم على قدم المساواة مع الدول الأخرى.
 
4- تعزيز الحضور الفلسطيني على الساحة الدولية: يمنح الاعتراف بدولة فلسطين وزناً أكبر لها في المنظمات الدولية المختلفة، فحصولها على حقوق إضافية في الجمعية العامة بموجب قرار 10 مايو 2024 السابق الإشارة إليه سوف يسمح لها بالمشاركة بفاعلية أكبر في المداولات وصياغة القرارات وتقديم المقترحات. كذلك، يُمثل الاعتراف وسيلة لخلق توازن أكبر في علاقاتها مع إسرائيل، ويُعزز قدرتها على إقامة علاقات ثنائية مع الدول المختلفة، وتبادل التمثيل الدبلوماسي، والانخراط في التحالفات الدولية. أخيراً، يمكن أن يؤدي الاعتراف إلى تقديم الجماعة الدولية يد العون والمساعدة لفلسطين من أجل بناء وتعزيز مؤسسات الدولة الفلسطينية، مثل الأنظمة القضائية، والتعليم، والصحة، والبنية التحتية؛ بما يُمكنها من ممارسة سيادتها المستقبلية، وهذا كله يصب بالطبع في مصلحة الشعب الفلسطيني.
 
ختاماً، يتضح في ضوء ما تقدم أن الاعتراف بدولة فلسطين يُشكل في حد ذاته أداة رئيسية لتعزيز مكانتها القانونية والدبلوماسية في النظام الدولي؛ إذ يُتيح لها الانخراط الفعّال في المنظمات متعددة الأطراف، والمطالبة بحقوقها على أساس المساواة في السيادة. ومع ذلك، تبرز بعض التحديات في هذا السياق، منها على سبيل المثال، الخطوة الأخيرة التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية بإلغاء التأشيرات الخاصة بأعضاء السلطة الفلسطينية قبيل انعقاد اجتماعات الجمعية العامة في سبتمبر الجاري؛ وهو ما يشير بصورة لا تقبل الشك، إلى استمرار استخدام بعض أدوات الضغط السياسي والدبلوماسي لتقييد الحركة الدولية للسلطة الفلسطينية، والحد من قدرتها على توظيف الاعتراف في تعزيز حضورها العالمي.