في خطوة تعكس توجه الصين المتصاعد نحو أداء دور محوري في صياغة معايير الحوكمة العالمية للتقنيات الناشئة، أعلن رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ، يوم 26 يوليو 2025، في كلمته الافتتاحية بالمؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي في شنغهاي، عن مقترح لتأسيس منظمة دولية للتعاون في مجال الذكاء الاصطناعي.
ورغم انفتاح عدد من الدول والأطراف على هذه المبادرة التي تمثل محاولة لحوكمة الذكاء الاصطناعي، وتوسيع حجم الاستفادة من تطبيقاته؛ فإن هذا الطرح لا يخلو من تحديات، يأتي في مقدمتها حالة التنافس التكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة، فضلاً عن تحديات أخرى مؤسسية وتكنولوجية قد تُعوق تحقيق واستدامة المبادرة.
أهداف الطرح:
ثمَّة أهداف مُتعددة تصبو بكين إلى تحقيقها من وراء إطلاق تلك الدعوة، ويمكن تسليط الضوء على أبرزها على النحو التالي:
1.طموحات الصين التكنولوجية: لا ينفصل هذا الطرح عن الرؤية الاستراتيجية التي تتبناها بكين لتعزيز موقعها العالمي في مجال التقنيات المتقدمة؛ فبعد أن دفعت بكين - بقوة- نحو الريادة في تطوير شبكات الجيل الخامس "5G"، تضع الصين اليوم الذكاء الاصطناعي في صلب سياساتها التكنولوجية الدولية. ويُعد هذا المقترح امتداداً لمساعيها لتكون فاعلاً مركزياً في صياغة منظومة الحوكمة التكنولوجية، فيما يمثل اختيار شنغهاي مقراً لها إشارة إلى استعداد الصين لتولي مسؤولية القيادة المؤسسية وتوفير فضاء للحوار حول الابتكار والتنمية والأمن التكنولوجي، خاصة لصالح الدول النامية.
ويستند هذا الطموح إلى البيئة الداخلية المُتطورة؛ إذ تحتضن الصين أكثر من 5 آلاف شركة في قطاع الذكاء الاصطناعي، وقدرت قيمة الصناعة في إبريل 2025 بنحو 600 مليار يوان (84 مليار دولار)، وذلك بفضل جهود الحكومة في توفير برامج تمويل واسعة لدعم الشركات الناشئة. ووفقاً لتقديرات بنك "مورغان ستانلي" الأمريكي، يتجه السوق الصيني نحو تحقيق نقطة التعادل قريباً (النقطة التي يتساوى عندها إجمالي الإيرادات مع إجمالي التكلفة)، مع عائد متوقع على الاستثمار يصل إلى 52% بحلول 2030؛ مما يعزز جاذبيته للمستثمرين الدوليين.
2.مواكبة سباق الذكاء الاصطناعي العالمي: شهد سباق الذكاء الاصطناعي العالمي تحولاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، خاصة مع تحقيق الصين تقدماً بارزاً تمثل في تطوير شركات مثل ديب سيك DeepSeek وعلي بابا Alibaba لأنظمة مفتوحة المصدر متقدمة وعالية الكفاءة؛ الأمر الذي عكس تسارع الجهود الصينية لتقليص الفجوة التكنولوجية مع الولايات المتحدة، ولا سيما في تطوير تقنيات تقارب في أدائها قدرات العقل البشري.
وعلى الرغم من أن الاستثمارات الصينية في هذا المجال – والمقدرة بنحو 9.3 مليار دولار في عام 2024– تظل أقل بكثير من حجم الاستثمارات الأمريكية البالغة 109.1 مليار دولار؛ فإن التزام بكين بالمنافسة يبدو واضحاً من خلال مؤشرات متعددة، أبرزها تفوقها في عدد براءات الاختراع الخاصة بالذكاء الاصطناعي التوليدي منذ عام 2017، متجاوزةً بذلك بقية دول العالم مجتمعة.
كما يتوقع أن يسُهم تعزيز قواعد الحوكمة العالمية في تمكين الشركات الصينية من ترسيخ وجودها في الأسواق الدولية، والمنافسة على حصة من سوق يتوقع أن يتجاوز حجمه 4.8 تريليون دولار بحلول عام 2033.
3.تعزيز التعاون الدولي في الذكاء الاصطناعي: طرحت الصين رسمياً المبادرة تحت مسمى "منظمة التعاون العالمي للذكاء الاصطناعي (WAICO)"، كمنصة دائمة تُعنى بتعزيز التعاون الدولي في هذا المجال الحيوي. ويجسد هذا الطرح قناعة بكين بأن معالجة التحديات المعقدة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي تتطلب تنسيقاً دولياً واسع النطاق، وليس فقط جهوداً محلية أو إقليمية. وقد اُختيرت مدينة شنغهاي كمقر رئيسي للمنظمة، لما تتمتع به من بنية تحتية مُتقدمة ومكانة مرموقة كمركز وطني للابتكار؛ ما يمكنها من قيادة مسارات التوافق العالمي وتفعيل أدوات التعاون العملي بين الدول والمؤسسات ذات الصلة.
4.توسيع المنفعة العامة للذكاء الاصطناعي: أكد لي تشيانغ أن الذكاء الاصطناعي ينبغي ألا يظل حكراً على الدول المتقدمة أو الشركات الكبرى، بل يجب النظر إليه كمنفعة عامة دولية تعزز مصالح البشرية جمعاء. وأعرب عن قلقه من اتساع الفجوة الرقمية بين الدول، مُشدداً على أهمية إتاحة تقنيات الذكاء الاصطناعي بصورة ديمقراطية، بما يسمح بتمكين الدول النامية والمتقدمة على حد سواء، خاصة وأن هذه التقنيات تجاوزت حدود الاستخدام الأكاديمي أو الصناعي لتصبح جزءاً من الحياة اليومية ومحركاً رئيسياً للنمو الاقتصادي العالمي.
ومع ذلك، حذَّر لي تشيانغ من المخاطر المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، مؤكداً الحاجة إلى توافق دولي يضمن التوازن بين استثمار قدراته الكبيرة والحفاظ على الأمن والتحكم البشري فيه. وفي هذا الإطار، تطرح المبادرة الصينية ضرورة تعزيز تقنيات مفتوحة المصدر، وتأسيس منصات بحثية مشتركة، وتقديم الدعم الفني والبنية التحتية للحوسبة، مع إعطاء أولوية خاصة لدول الجنوب العالمي.
5.تحقيق حوكمة الذكاء الاصطناعي: برزت الحاجة الملحة إلى إطار عالمي منسق لإدارة الذكاء الاصطناعي في ضوء التوسع السريع لهذا المجال في قطاعات شديدة الحساسية، مثل الرعاية الصحية، والدفاع، والخدمات المالية، والتعليم. فمع تزايد تأثير هذه التقنية في نواحي الحياة المختلفة، تصاعدت المخاوف بشأن آثارها السلبية المحتملة، بما في ذلك انتشار المعلومات المضللة، وتزايد استخدام تقنيات التزييف العميق، وتفاقم التحيزات الخوارزمية، ناهيك عن المخاطر الوجودية التي قد تنجم عن تطور الذكاء الاصطناعي إلى مستويات فائقة القدرة.
ويمثل اقتراح الصين بتأسيس هذه المنظمة استجابة مباشرة لهذا الفراغ في الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي؛ الأمر الذي يجسد تطلع بكين إلى أداء دور مركزي في بناء إطار عمل شامل وعادل يضمن الاستخدام المسؤول والآمن للتكنولوجيا؛ فلطالما دعت الصين إلى تبني نهج منفتح وتعاوني في هذا السياق، يقوم على مبدأ الشمولية والتنمية المشتركة، ويوازن بين تحقيق التقدم التكنولوجي والحفاظ على معايير الأمان.
تحديات مُحتملة:
في ضوء الأهمية العالمية التي تحظى بها المبادرة الصينية لتنظيم الذكاء الاصطناعي، برزت مجموعة من المؤشرات التي تعزز احتمالية قبولها على المستوى الدولي؛ أولها ترحيب أبرز الخبراء والفاعلين في هذا المجال بالمبادرة، حيث عبر عدد من رواد الذكاء الاصطناعي مثل جيفري هينتون، الموصوف بـ"الأب الروحي للذكاء الاصطناعي"، وإريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق لشركة جوجل، عن دعمهم لفكرة وضع معايير سلامة عالمية ملزمة.
ثانيها، إبراز بكين تركيزها على إشراك بلدان الجنوب العالمي باعتباره أحد أبرز جوانب المبادرة؛ إذ تعهدت الصين بتوفير خبراتها التقنية ومنتجاتها وخدماتها، إلى جانب إتاحة بنيتها التحتية الرقمية للدول التي تفتقر إلى الإمكانات اللازمة للانخراط في الثورة الرقمية. ويتكامل هذا التوجه مع استراتيجية "طريق الحرير الرقمي"، التي تهدف إلى بناء فضاء تكنولوجي بديل للنظم الغربية المهيمنة، وتعزيز قدرات الدول النامية في مجالات التدريب، وتطوير الكفاءات البشرية، وتسهيل الوصول إلى البرمجيات مفتوحة المصدر.
وقد لاقى هذا الطرح اهتماماً ملموساً من عدد من الحكومات، ولا سيما في جنوب شرق آسيا وإفريقيا، باعتباره فرصة لتسريع التحول الرقمي وتحفيز النمو الاقتصادي الوطني. كما تجلى ذلك خلال فعاليات "مؤتمر الذكاء الاصطناعي العالمي 2025"؛ حيث أعرب الأمين العام لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، إلى جانب مسؤولين من إندونيسيا وباكستان، عن دعمهم للمبادرة الصينية، واعتبروها رافعة لتعزيز الاقتصادات الوطنية عبر توظيف الذكاء الاصطناعي في القطاعات الإنتاجية المختلفة.
ورغم هذه المؤشرات الإيجابية والدعم الذي أبدته بعض الدول النامية وعدد من الخبراء الدوليين؛ فإن تحقيق إجماع عالمي حول المبادرة لا يزال بعيد المنال، في ظل استمرار الانقسامات الأيديولوجية بشأن قضايا مثل سيادة البيانات، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وتوزيع السلطة في الفضاء الرقمي، فضلاً عن ضعف آليات الإنفاذ في النظام الدولي للحوكمة الرقمية، وهي عوامل قد تحد من فرص نجاح المبادرة على المدى البعيد. ويمكن استعراض أبرز هذه العوامل على النحو التالي:
1.التنافس التكنولوجي مع الولايات المتحدة: رغم الطابع العالمي الذي تتبناه المبادرة الصينية لإنشاء منظمة دولية للتعاون في مجال الذكاء الاصطناعي؛ فإن التحدي الأبرز الذي يواجه هذا الطرح يتمثل في واقع التنافس التكنولوجي المحتدم، خصوصاً بين الصين والولايات المتحدة. ففي الوقت الذي تروج فيه بكين لفكرة التعددية الدولية والتعاون المفتوح، تواصل واشنطن اتباع سياسة تركز على تعزيز الهيمنة الوطنية في مجال الذكاء الاصطناعي، عبر فرض قيود مُشددة على نقل التقنيات المتقدمة إلى الصين تحت ذريعة الحفاظ على الأمن القومي.
ويتجلى هذا التنافس في إعلان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطة وطنية خاصة بالذكاء الاصطناعي قبل أيام قليلة من انطلاق مؤتمر شنغهاي، وهو ما اعتبر رسالة مضادة مباشرة للمبادرة الصينية؛ حيث تهدف الخطة الأمريكية إلى تعزيز تفوق الولايات المتحدة في الأسواق العالمية للذكاء الاصطناعي، عبر تخفيف الأعباء التنظيمية المفروضة على شركات التقنية الأمريكية، وتوسيع نطاق صادراتها من مُنتجات وخدمات الذكاء الاصطناعي.
وعلى الرغم من أن رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ، لم يشر صراحة إلى الولايات المتحدة في خطابه بالمؤتمر؛ فإنه وجه تحذيراً واضحاً من خطر تحول الذكاء الاصطناعي إلى "لعبة مغلقة" في يد عدد محدود من الدول أو الشركات الكبرى، مؤكداً أن التحديات تشمل النقص الحاد في رقائق الذكاء الاصطناعي، وفرض قيود على تبادل الكفاءات والمواهب.
2.غياب الولايات المتحدة ومعضلة التوافق الدولي: تتعارض العقيدة الأمريكية المتمثلة في شعار "أمريكا أولاً" بشكل جوهري مع الرؤية الصينية القائمة على التعددية والشراكة المتكافئة؛ وهو ما يفسر تجاهل واشنطن الكامل للمبادرة الصينية، وعدم إبدائها أي نية للانخراط في كيان تنظيمي جديد تقوده بكين. بل إن الشكوك تتسرب إلى العديد من الحلفاء الغربيين، الذين يبدون حذراً ملحوظاً حيال الانضمام إلى إطار حوكمة ينظر إليه باعتباره قد يُعزِّز الاستبداد الرقمي، أو يعاني من نقص في الشفافية والمساءلة، وفق تصورهم.
وبناءً على ذلك، يُعد غياب الولايات المتحدة عن المبادرة الصينية أحد أبرز العقبات أمام نجاحها؛ إذ دأبت الولايات المتحدة، خصوصاً في السنوات الأخيرة، على الانسحاب من منظمات دولية اعتبرت أنها لا تخدم مصالحها أو تهيمن عليها قوى منافسة، مثل انسحابها من منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، واتفاقية باريس للمناخ. تلك الخطوات تجعل من الصعب تصور انخراط الولايات المتحدة في منظمة تقودها الصين، خاصة إذا لم تتوافر ضمانات واضحة بشأن الحوكمة المتوازنة والشفافية. ومن دون مُشاركة قوة كبرى مثل الولايات المتحدة، تبقى المبادرة معرضة للقصور في التمثيل العالمي، وقد تواجه بتشكك من دول أخرى تخشى الوقوع تحت هيمنة رقمية صينية؛ وهو ما يضعف فرص تحقيق توافق دولي واسع النطاق حول معايير الذكاء الاصطناعي.
3.القيود الهيكلية والمؤسسية: يشكل الغموض البنيوي الذي يكتنف المبادرة الصينية لإنشاء منظمة الذكاء الاصطناعي العالمية تحدياً رئيسياً آخر قد يقوض مصداقيتها وقدرتها على اجتذاب دعم دولي واسع؛ فباستثناء ما تم الإعلان عنه بخصوص اختيار مدينة شنغهاي مقراً دائماً، ودعوات التعاون مفتوح المصدر، لم تقدم بكين بعد تفاصيل دقيقة تتعلق بالبنية المؤسسية للمنظمة، مثل شروط العضوية، ونظام التصويت الداخلي، وآليات الإنفاذ، وكيفية تفاعل المنظمة مع الكيانات الدولية القائمة كالأمم المتحدة أو الاتحاد الدولي للاتصالات.
4.القيود التقنية وأثرها على استدامة المبادرة: على الرغم من الطفرة اللافتة التي حققتها الصين في قطاع الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الأخيرة؛ تبقى هناك فجوات تكنولوجية ملموسة تُعوق طموحاتها نحو الهيمنة على هذا المجال. وتتمثل أبرز هذه الفجوات في القيود المفروضة على الحصول على رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة، نتيجة للعقوبات الأمريكية الصارمة التي تستهدف الحد من قدرات الصين التقنية.
ورغم وجود شركات صينية واعدة مثل DeepSeek وMoonshot AI تظهر كفاءة عالية في تصميم نماذج ذكاء اصطناعي متطورة وفعالة من حيث التكلفة؛ فإن اعتماد هذه النماذج على أشباه موصلات منخفضة الأداء نسبياً قد يؤثر سلباً في قدراتها التشغيلية، ويُعوق إمكانية توسيع نطاق استخدامها على المدى المتوسط والطويل؛ ومن ثم إذا فشلت الصين في المحافظة على ريادتها في مجال تصميم وتطوير الرقائق المتقدمة، أو واجهت عزلة تكنولوجية أعمق، فمن المرجح أن يفقد النظام البيئي للذكاء الاصطناعي الصيني الكثير من جاذبيته؛ وهو ما سينعكس سلباً على قدرة الصين على فرض مبادرتها كمرجعية لحوكمة الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم.
خلاصة القول، يمثل اقتراح الصين بإنشاء منظمة دولية للتعاون في الذكاء الاصطناعي خطوة استراتيجية لافتة، تأتي استجابة لحاجة عالمية متزايدة نحو تنظيم هذا المجال المتسارع؛ حيث تسعى بكين من خلال هذا الطرح إلى ترسيخ مكانتها كقوة عظمى قادرة على قيادة عملية تطوير الذكاء الاصطناعي بطريقة شاملة، في الوقت الذي تتحدى فيه الهيمنة الغربية على وضع المعايير الدولية.
وفي المقابل، سيكون من الصعب نجاح هذه المبادرة ما لم تتمكن الصين من تجاوز العديد من العقبات، وعلى رأسها كسب ثقة المجتمع الدولي، وخاصة دول الجنوب العالمي، من خلال إظهار التزام واضح بالحياد المؤسسي، والشفافية، والتشاركية في اتخاذ القرار، إلى جانب إيجاد حلول بديلة للتوترات الجيوسياسية، والقيود المفروضة على التكنولوجيا، وانعدام الثقة ببعض النماذج الحاكمة، وهي عوامل قد تبطئ زخم المبادرة أو تحد من فاعليتها.